فصل: تفسير الآيات (2-5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.سُورَةُ الْكَوْثَر:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم.

.تفسير الآية رقم (1):

{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}.
الْكَوْثَرُ فَوْعَلُ مِنَ الْكَثْرَةِ، وَأَعْطَيْنَاكَ قُرِئَ: أَنْطَيْنَاكَ، بِإِبْدَالِ الْعَيْنِ نُونًا، وَلَيْسَتِ النُّونُ مُبْدَلَةً عَنِ الْعَيْنِ، كَإِبْدَالِ الْأَلِفِ مِنَ الْوَاوِ أَوِ الْعَيْنِ فِي الْأَجْوَفِ وَنَحْوِهِ، وَلَكِنَّ كُلَّا مِنْهُمَا أَصْلٌ بِذَاتِهِ، وَقِرَاءَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْكَوْثَرِ.
فَقِيلَ: عَلَمٌ.
وَقِيلَ: وَصْفٌ.
وَعَلَى الْعَلَمِيَّةِ قَالُوا: إِنَّهُ عَلَمٌ عَلَى نَهْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلَى الْوَصْفِ قَالُوا: الْخَيْرُ الْكَثِيرُ.
وَمِمَّا اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى الْعَلَمِيَّةِ، مَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، ذَكَرَهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا عُرِجَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ قَالَ: «أَتَيْتُ نَهْرًا حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ مُجَوَّفًا. فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ».
وَبِسَنَدِهِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سُئِلَتْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قَالَتْ: «هُوَ نَهْرٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَاطِئَاهُ عَلَيْهِمَا دُرٌّ مُجَوَّفٌ، آنِيَتُهُ كَعَدَدِ النُّجُومِ».
وَبِسَنَدِهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَوْثَرِ: هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ.
قَالَ أَبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: فَإِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَغَيْرَهَا عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِنْهَا بِسَنَدِ أَحْمَدَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «أَغْفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِغْفَاءَةً، فَرَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا إِمَّا قَالَ لَهُمْ، وَإِمَّا قَالُوا لَهُ: لِمَ ضَحِكْتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ نَزَلَتْ عَلِيَّ آنِفًا سُورَةٌ، فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، حَتَّى خَتَمَهَا، فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: نَهَرَ أَعْطَانِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجَنَّةِ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ الْكَوَاكِبِ يَخْتَلِجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ».
وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ الْحَوْضِ، وَهَذِهِ النُّصُوصُ عَلَى أَنَّ الْكَوْثَرَ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ، أَعْطَاهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَوْلُهُ: «عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ» يُشْعِرُ بِأَنَّ مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ مَوْجُودٌ.
وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ.
وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى الْمَعْنَى، بِقَوْلِ الشَّاعِرِ الْكُمَيْتِ:
وَأَنْتَ كَثِيرٌ يَا ابْنَ مَرْوَانَ طَيِّبٌ ** وَكَانَ أَبُوكَ ابْنُ الْفَصَائِل

وَالَّذِي تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ النَّفْسُ أَنَّ الْكَوْثَرَ، هُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَأَنَّ الْحَوْضَ أَوِ النَّهَرَ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ.
وَقَدْ أَتَتْ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى إِعْطَاءِ اللَّهِ لِرَسُولِهِ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [15/ 87].
وَفِي الْقَرِيبِ سُورَةُ الضُّحَى وَفِيهَا: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [93/ 5]، أَعْقَبَهَا بِنِعَمٍ جَلِيلَةٍ مِنْ شَرْحِ الصُّدُورِ، وَوَضْعِ الْوِزْرِ، وَرَفْعِ الذِّكْرِ، وَالْيُسْرِ بَعْدَ الْعُسْرِ.
وَبَعْدَهَا فِي سُورَةِ التِّينِ جَعَلَ بَلَدَهُ الْأَمِينَ، وَأَعْطَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ.
وَبَعْدَهَا سُورَةُ اقْرَأْ امْتَنَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ.
وَبَعْدَهَا سُورَةُ الْقَدْرِ: أَعْطَاهُ لَيْلَةً خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.
وَبَعْدَهَا سُورَةُ الْبَيِّنَةِ: جَعَلَ أُمَّتَهُ خَيْرَ الْبَرِيَّةِ، وَمَنَحَهُمْ رِضَاهُ عَنْهُمْ، وَأَرْضَاهُمْ عَنْهُ.
وَبَعْدَهَا سُورَةُ الزَّلْزَلَةِ: حَفِظَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، فَلَمْ يُضَيِّعْ عَلَيْهِمْ مِثْقَالَ الذَّرَّةِ مِنَ الْخَيْرِ.
وَفِي سُورَةِ الْعَادِيَاتِ: أَكْبَرُ عَمَلٍ الْجِهَادُ، فَأَقْسَمَ بِالْعَادِيَاتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ.
وَفِي سُورَةِ التَّكَاثُرِ: تَرْبِيَتُهُمْ عَلَى نِعَمِهِ لِيَشْكُرُوهَا، فَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.
وَفِي سُورَةِ الْعَصْرِ: جَعَلَ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَتَعْمَلُ الصَّالِحَاتِ، وَتَتَوَاصَى بِالْحَقِّ وَتَدْعُو إِلَيْهِ، وَتَتَوَاصَى بِالصَّبْرِ، وَتَصْبِرُ عَلَيْهِ.
وَبَعْدَهَا فِي سُورَةِ قُرَيْشٍ: أَكْرَمَ اللَّهُ قَوْمَهُ، فَآمَنَهُمْ وَأَعْطَاهُمْ رِحْلَتَيْهِمْ.
وَفِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً، وَهِيَ سُورَةُ الْمَاعُونِ: يُمْكِنُ عَمَلُ مُقَارَنَةٍ تَامَّةٍ أَوَّلًا.
وَفِي الْجُمْلَةِ، لَئِنْ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ، فَقَدْ أَعْطَيْنَاكَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ، ثَانِيًا.
وَعَلَى التَّفْصِيلِ فَفِي الْأُولَى: وَصَفَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ بِدَعِّ الْيَتِيمِ، وَفِي الضُّحَى قَدْ بَيَّنَ لَهُ حَقَّ الْيَتِيمِ: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [93/ 9]، فَكَانَ هُوَ خَيْرُ مُوَكَّلٍ، وَخَيْرُ كَافِلٍ، وَوَصَفَهُمْ هُنَا بِأَنَّهُمْ لَا يَحُضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ.
وَقَدْ أَوْضَحَ لَهُ فِي الضُّحَى، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ، فَكَانَ يُؤْثِرُ السَّائِلَ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَؤُلَاءِ سَاهُونَ عَنْ صَلَاتِهِمْ يُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ.
وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} [108/ 2]، أَدَاءُ الصَّلَاةِ وَخَالِصَةٌ لِرَبِّهِ، وَإِطْعَامُ الْمِسْكِينِ بِنَحْرِ الْهَدْيِ وَالضَّحِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ، يُضَافُ إِلَيْهِ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، كَمَا فِي حَدِيثِ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَحَلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَكُنْ تَحُلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي. وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ لِقَوْمِهِ خَاصَّةً، فَبُعِثْتُ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٌ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةَ فَلْيُصَلِّ».
وَقَوْلُهُ: «رُفِعَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [2/ 286].
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، قَدْ فَعَلْتُ».
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [17/ 79]، وَهُوَ الْمَقَامُ الَّذِي يَغْبِطُهُ عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ.
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ، بِمَا يُؤَكِّدُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ، عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: إِنَّ الْكَوْثَرَ: الْخَيْرُ الْكَثِيرُ.
وَأَنَّ النَّهْرَ فِي الْجَنَّةِ مِنْ هَذَا الْكَوْثَرِ الَّذِي أُعْطِيَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

.تفسير الآية رقم (2):

{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}.
فِي هَذَا مَعَ مَا قَبْلَهُ رَبْطٌ بَيْنَ النِّعَمِ وَشُكْرِهَا، وَبَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَمُوجِبِهَا، فَكَمَا أَعْطَاهُ الْكَوْثَرَ فَلْيُصَلِّ لِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَلْيَنْحَرْ لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [106/ 3- 4].
وَهُنَاكَ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ رِحْلَتَيْهِمْ وَأَمْنِهِمْ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ مُقَابِلَ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي السُّورَةِ قَبْلَهَا بَيَانُ حَالِ الْمُنَافِقِينَ فِي السَّهْوِ عَنِ الصَّلَاةِ وَالرِّيَاءِ فِي الْعَمَلِ، جَاءَ هُنَا بِالْقُدْوَةِ الْحَسَنَةِ فَصَلِّ لِرَبِّكَ مُخْلِصًا لَهُ فِي عِبَادَتِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي السُّورَةِ قَبْلَهَا: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [18/ 110].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَعْلِيمِ الْأُمَّةِ، فِي خِطَابِ شَخْصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [39/ 65]، مَعَ عِصْمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَالصَّلَاةُ عَامَّةً وَالْفَرِيضَةُ أَخُصُّهَا.
وَقِيلَ: صَلَاةُ الْعِيدِ، وَالنَّحْرُ: قِيلَ فِيهِ أَقْوَالٌ عَدِيدَةٌ:
أَوَّلُهَا: فِي نَحْرِ الْهَدْيِ أَوْ نَحْرِ الضَّحِيَّةِ: وَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِقَوْلِ مَنْ حَمَلَ الصَّلَاةَ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ، وَأَنَّ النَّحْرَ بَعْدَ الصَّلَاةِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ «لَمَّا ضَحَّى قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، وَسَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحُثُّ عَلَى الضَّحِيَّةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: إِنِّي عَلِمْتُ الْيَوْمَ يَوْمَ لَحْمٍ فَعَجَّلْتُ بِضَحِيَّتِي، فَقَالَ لَهُ: شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ؟ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدَنَا لَعَنَاقًا أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ شَاةٍ، أَفَتُجْزِئُ عَنِّي؟ قَالَ: اذْبَحْهَا، وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ غَيْرَكَ».
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ مَبْحَثُ الضَّحِيَّةِ وَافِيًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [22/ 28]، وَقَدْ ذَكَرُوا فِي مَعَانِي: وَانْحَرْ: أَيْ ضَعْ يَدَكَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى عَلَى نَحْرِكَ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَأَقْوَالٌ أُخْرَى لَيْسَ عَلَيْهَا نَصٌّ.
وَالنَّحْرُ: هُوَ طَعْنُ الْإِبِلِ فِي اللَّبَّةِ عِنْدَ الْمَنْحَرِ مُلْتَقَى الرَّقَبَةِ بِالصَّدْرِ.
وَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي النَّحْرِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عُمُومِ الصَّلَاةِ وَعُمُومِ النَّحْرِ أَوِ الذَّبْحِ لِمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [6/ 162].
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّحْرَ لِلْإِبِلِ، وَالذَّبْحَ لِلْغَنَمِ، وَالْبَقَرَ مُتَرَدَّدٌ فِيهِ بَيْنَ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَفْضَلُ، وَلَوْ عَمَّمَ النَّحْرَ فِي الْجَمِيعِ، أَوْ عَمَّمَ الذَّبْحَ فِي الْجَمِيعِ لَكَانَ جَائِزًا، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ.
وَقَالُوا: إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَخْصِيصِ الْإِبِلِ بِالنَّحْرِ، هُوَ طُولُ الْعُنُقِ، إِذْ لَوْ ذُبِحَتْ لَكَانَ مَجْرَى الدَّمِ مِنَ الْقَلْبِ إِلَى مَحَلِّ الذَّبْحِ بَعِيدًا فَلَا يُسَاعِدُ عَلَى إِخْرَاجِ جَمِيعِ الدَّمِ بِيُسْرٍ، بِخِلَافِ النَّحْرِ فِي الْمَنْحَرِ، فَإِنَّهُ يُقَرِّبُ الْمَسَافَةَ وَيُسَاعِدُ الْقَلْبَ عَلَى دَفْعِ الدَّمِ كُلِّهِ، أَمَّا الْغَنَمُ فَالذَّبْحُ مُنَاسِبٌ لَهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآية رقم (3):

{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [3]. قَالَ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: {شَانِئَكَ}: عَدُوَّكَ اهـ.
وَالْأَبْتَرُ: هُوَ الْأَقْطَعُ الَّذِي لَا عَقِبَ لَهُ.
وَأَنْشَدَ أَبُو حَيَّانَ، قَوْلَ الشَّاعِرِ:
لَئِيمٌ بَدَتْ فِي أَنْفِهِ خُنْزُوَانَةٌ ** عَلَى قَطْعِ ذِي الْقُرْبَى أَجُذُّ أَبَاتِرَ

وَقَالَ: {شَانِئَكَ}: مُبْغِضَكَ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ يُخْبِرُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ مُبْغِضَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْأَقْطَعُ.
فَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ.
قَالَ لِقُرَيْشٍ: دَعُوهُ، فَإِنَّهُ أَبْتَرُ لَا عَقِبَ لَهُ، إِذَا مَاتَ اسْتَرَحْتُمْ، فَأَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ جَاءَ مِصْدَاقُهَا بِالْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [8/ 7] فَقَتَلَ صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ، وَصَدَقَ الْوَعِيدَ فِيهِمْ.
وَمِثْلُهُ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [6/ 45].
وَجَاءَ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [111/ 1].
فَهِيَ فِي مَعْنَاهَا أَيْضًا.
وَبَقِيَ ذِكْرُ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَقِبِهِ مِنْ آلِ بَيْتِهِ، وَفِي أُمَّتِهِ كُلِّهَا.
كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [94/ 4].

.سُورَةُ الْكَافِرُونَ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم.

.تفسير الآيات (2-5):

{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [1]. نِدَاءٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، لَمَّا عَرَضُوا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْرُكَ دَعْوَتَهُ وَيُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعْطُوهُ مِنَ الْمَالِ مَا يُرْضِيهِ وَنَحْوِهِ فَرَفَضَ، فَقَالُوا: تَقْبَلُ مِنَّا مَا نَعْرِضُهُ عَلَيْكَ: تَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً، فَسَكَتَ عَنْهُمْ فَنَزَلَتْ، وَقَالُوا لَهُ: إِنْ يَكُنِ الْخَيْرُ مَعَنَا أَصَبْتَهُ، وَإِنْ يَكُنْ مَعَكَ أَصَبْنَاهُ.
وَفِي مَجِيءِ: قُلْ، مَعَ أَنَّ مَقُولَ الْقَوْلِ كَانَ قَدْ يَكْفِي فِي الْبَلَاغِ، وَلَكِنَّ مَجِيئَهَا لِغَايَةٍ فَمَا هِيَ؟
قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: إِمَّا لِأَنَّهُمْ عَابُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ أَبْتَرُ فَجَاءَ قَوْلُهُ: قُلْ، إِشْعَارًا بِأَنَّ اللَّهَ يَرُدُّ عَنْ رَسُولِهِ بِهَذَا الْخِطَابِ، الَّذِي يُنَادِي عَلَيْهِمْ فِي نَادِيهِمْ بِأَثْقَلِ الْأَوْصَافِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ.
أَوْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا الْخِطَابُ فِيهِ مُغَايَرَةُ الْمَأْلُوفِ مِنْ تَخَاطُبِهِ مَعَهُمْ مِنْ أُسْلُوبِ الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَكَانَ فِيهِ مِنَ التَّقْرِيعِ لَهُمْ وَمُجَابَهَتِهِمْ، قَالَ لَهُ: قُلْ: إِشْعَارًا بِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ مَا أَمَرَ بِهِ، وَجَاءَتْ يَا، وَهِيَ لِنِدَاءِ الْبَعِيدِ، لِبُعْدِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}. قِيلَ: تَكْرَارٌ فِي الْعِبَارَاتِ لِلتَّوْكِيدِ، كَتَكْرَارِ: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [77/ 15]، وَتَكْرَارِ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [55/ 13].
وَنَظِيرُهُ فِي الشِّعْرِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ، مِنْ ذَلِكَ مَا أَوْرَدَهُ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
هَلَّا سَأَلْتَ جُمُوعَ كِنْدَةَ ** يَوْمَ وَلَّوْ أَيْنَ أَيْنَا

وَقَوْلُ الْآخَرِ:
يَا عَلْقَمَةُ يَا عَلْقَمَةُ يَا عَلْقَمَهْ ** خَيْرَ تَمِيمٍ كُلِّهَا وَأَكْرَمَهْ

وَقَوْلُ الْآخَرِ:
يَا أَقْرَعُ بْنَ حَابِسٍ يَا أَقْرَعُ ** إِنَّكَ إِنْ يُصْرَعْ أَخُوكَ تُصْرَعُ

وَقَوْلُ الْآخَرِ:
أَلَا يَا سَلْمَى ثُمَّ اسْلَمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي ** ثَلَاثُ تَحِيَّاتٍ وَإِنْ لَمْ تَكَلَّم

وَقَدْ جَاءَتْ فِي أَبْيَاتٍ لِبَعْضِ تَلَامِيذِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ضِمْنَ مُسَاجَلَةٍ لَهُ مَعَهُ قَالَ فِيهَا:
تَاللَّهِ إِنَّكَ قَدْ مَلَأْتَ مَسَامِعِي ** دُرًّا عَلَيْهِ قَدِ انْطَوَتْ أَحْشَائِي

زِدْنِي وَزِدْنِي ثُمَّ زِدْنِي وَلْتَكُنْ ** مِنْكَ الزِّيَادَةُ شَافِيًا لِلدَّاء

فَكَرَّرَ قَوْلَهُ: زِدْنِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَقِيلَ: لَيْسَ فِيهِ تَكْرَارٌ، عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى عَنِ الْمَاضِي وَالثَّانِيَةَ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ.
وَقِيلَ: الْأُولَى عَنِ الْعِبَادَةِ، وَالثَّانِيَةُ عَنِ الْمَعْبُودِ.
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَالسُّورَةُ فِي الْجُمْلَةِ نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْبُدُ مَعْبُودَهُمْ، وَلَا هُمْ عَابِدُونَ مَعْبُودَهُ، وَقَدْ فَسَّرَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [10/ 41].
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، عِنْدَ آيَةِ يُونُسَ تِلْكَ، وَذَكَرَ هَذِهِ السُّورَةَ هُنَاكَ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَيْضًا فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ جَوَابًا عَلَى إِشْكَالٍ فِي السُّورَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} نَفْيٌ لِعِبَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعْبُودَُُ الْآخَرِ مُطْلَقًا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ آمَنَ بَعْضُهُمْ فِيمَا بَعْدُ وَعَبَدَ مَا يَعْبُدُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: مُوجَزُهُمَا أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْكُفَّارِ، وَإِنْ أَسْلَمُوا فِيمَا بَعْدُ فَهُوَ خِطَابٌ لَهُمْ مَا دَامُوا كُفَّارًا إِلَى آخِرِهِ، أَوْ أَنَّهَا مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، فَتَكُونُ فِي خُصُوصِ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ. اهـ. مُلَخَّصًا.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو حَيَّانَ وَجْهًا عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكُفَّارِ خَاصٌّ بِالْحَاضِرِ؛ لِأَنَّ مَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ تُعَيِّنُهُ لِلْحَاضِرِ.
وَنَاقَشَهُ أَبُو حَيَّانَ، بِأَنَّ ذَلِكَ فِي مُغَالِبٍ لَا عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ السُّورَةِ قَدْ يَشْهَدُ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ أَنَّ السُّورَةَ تَتَكَلَّمُ عَنِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ جِهَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجِهَةُ الْكُفَّارِ فِي عَدَمِ عِبَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعْبُودَ الْآخَرِ.
وَلَكِنَّهَا لَمْ تُسَاوِ فِي اللَّفْظِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، فَمِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ عَبَّرَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى الْحَالِ أَيْ: لَا أَعْبُدُ الْآنَ مَا تَعْبُدُونَ الْآنَ بِالْفِعْلِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالِاسْمِيَّةِ وَعَنْهُ هُوَ بِالْفِعْلِيَّةِ، أَيْ: وَلَا أَنْتُمْ مُتَّصِفُونَ بِعِبَادَةِ مَا أَعْبُدُ الْآنَ.
وَفِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ قَالَ: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. فَعَبَّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مُتَّصِفًا بِعِبَادَةِ مَا يَعْبُدُونَ وَلَا هُمْ عَابِدُونَ مَا يَعْبُدُ، فَكَانَ وَصْفُهُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجُمْلَتَيْنِ بِوَصْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ تَارَةً وَبِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ تَارَةً أُخْرَى، فَكَانَتْ إِحْدَاهُمَا لِنَفْيِ الْوَصْفِ الثَّابِتِ، وَالْأُخْرَى لِنَفْيِ حُدُوثِهِ فِيمَا بَعْدُ.
أَمَّا هُمْ فَلَمْ يُوصَفُوا فِي الْجُمْلَتَيْنِ إِلَّا بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوَصْفِ الثَّابِتِ، أَيْ فِي الْمَاضِي إِلَى الْحَاضِرِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا وُصِفُوا بِهِ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ مِنْ خَصَائِصِهَا التَّجَدُّدُ وَالْحُدُوثُ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يَتَعَرَّضُ لِلْمُسْتَقْبَلِ فَلَمْ يَكُنْ إِشْكَالٌ، وَاللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْوَصْفَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ يَحْتَمِلُ الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ، فَيَبْقَى الْإِشْكَالُ مُحْتَمَلًا.
قِيلَ: مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ دُخُولَ مَا عَلَيْهِ تُعَيِّنُهُ لِلْحَالِ، يَكْفِي فِي نَفْيِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ نَاقَشَهُ أَبُو حَيَّانَ.
وَقَالَ: إِنَّهَا أَغْلَبِيَّةٌ وَلَيْسَتْ قَطْعِيَّةً.

.تفسير الآية رقم (6):

{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}:
قُلْنَا: يَكْفِي فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْأَغْلَبِ، وَهُوَ مَا يُصَدِّقُهُ الْوَاقِعُ، إِذْ آمَنَ بَعْضُهُمْ وَعَبَدَ مَعْبُودَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَاقِعَةٌ فِي الْأُولَى عَلَى غَيْرِ ذِي عِلْمٍ، وَهِيَ أَصْنَامُهُمْ وَهُوَ اسْتِعْمَالُهَا الْأَسَاسِيُّ.
وَفِي الثَّانِيَةِ: فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ اسْتِعْمَالُهَا فِي غَيْرِ اسْتِعْمَالِهَا الْأَسَاسِيِّ، فَقِيلَ: مِنْ أَجْلِ الْمُقَابَلَةِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ فِيمَنْ يَعْلَمُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [4/ 3]؛ لِأَنَّهُنَّ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، فَلِلْقَرِينَةِ جَازَ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا مَعَ مَا قَبْلَهَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ بِمَعْنَى عِبَادَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ، وَلَا تَعْبُدُونَ عِبَادَاتِي الصَّحِيحَةَ.
وَهَذَا الْمَعْنَى قَوِيٌّ، وَإِنْ تَعَارَضَ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنْ سَبَبِ النُّزُولِ، إِلَّا أَنَّ لَهُ شَاهِدًا مِنْ نَفْسِ السُّورَةِ وَيَتَضَمَّنُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَدَلِيلُهُ مِنَ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [109/ 6]، فَأَحَالَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِمْ، وَلَمْ يُحِلْهُمْ عَلَى مَعْبُودِهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} هُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُونُسَ: {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [10/ 41].
وَكَقَوْلِهِ: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [28/ 55].
وَلَيْسَ فِي هَذَا تَقْرِيرُهُمْ عَلَى دِينِهِمُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ مِنْ قَبِيلِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ كَقَوْلِهِ: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [18/ 29].
وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَصْفٌ يَكْفِي بِأَنَّ عِبَادَتَهُمْ وَدِيَانَتَهُمْ كُفْرٌ.
وَقَدْ قَالَ لَهُمُ الْحَقُّ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَاطِلَةٌ، عِبَادَةُ الْكُفَّارِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ إِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا هِيَ فَلَكُمْ دِينُكُمْ وَلِي دِينِ.
تَنْبِيهٌ:
فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَنْهَجٌ إِصْلَاحِيٌّ، وَهُوَ عَدَمُ قَبُولِ وَلَا صَلَاحِيَةِ أَنْصَافِ الْحُلُولِ؛ لِأَنَّ مَا عَرَضُوهُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي الْعِبَادَةِ، يُعْتَبَرُ فِي مِقْيَاسِ الْمَنْطِقِ حَلًّا وَسَطًا لِاحْتِمَالِ إِصَابَةِ الْحَقِّ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، فَجَاءَ الرَّدُّ حَاسِمًا وَزَاجِرًا وَبِشِدَّةٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَيْ فِيمَا عَرَضُوهُ مُسَاوَاةً لِلْبَاطِلِ بِالْحَقِّ، وَفِيهِ تَعْلِيقَ الْمُشْكِلَةِ، وَفِيهِ تَقْرِيرَ الْبَاطِلِ، إِنْ هُوَ وَافَقَهُمْ وَلَوْ لَحْظَةً.
وَقَدْ تُعْتَبَرُ هَذِهِ السُّورَةُ مُمَيِّزَةً وَفَاصِلَةً بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، وَنِهَايَةَ الْمُهَادَنَةِ، وَبِدَايَةَ الْمُجَابَهَةِ.
وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فِي السُّورَةِ قَبْلَهَا: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [108/ 1]، أَيْ وَإِنْ كُنْتَ وَصَحْبُكَ قِلَّةً، فَإِنَّ مَعَكَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ، وَلِمَجِيءِ قُلْ لِمَا فِيهَا مِنْ إِشْعَارٍ بِأَنَّكَ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي يَنْصُرُكَ، وَلِذَا جَاءَ بَعْدَهَا حَالًا سُورَةُ النَّصْرِ وَبَعْدَ النَّصْرِ: تَبُّ الْعَدُوِّ.
وَهَذَا فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.